تشهد سوق التكنولوجيا العالمية خلال الأشهر الأخيرة ارتفاعًا جنونيًا في أسعار الذاكرة الحاسوبية (DRAM)، حيث سجّل سعر الجيغابايت الواحد قفزة وصلت إلى 400% في أقل من شهر وفقًا لتقارير متقاطعة من مورّدين عالميين. هذا الارتفاع غير المسبوق لم يأتِ من فراغ، بل هو نتيجة مباشرة لـ الطلب الهائل الناتج عن الذكاء الاصطناعي، إضافة إلى قرارات استراتيجية اتخذتها كبرى الشركات المصنعة للشرائح الإلكترونية.
هذا المقال يقدم تحليلًا مفصّلًا لأسباب الأزمة، وتأثيرها على سوق الحواسيب، والهواتف، والسيارات، إضافة إلى توقعات الخبراء للفترة 2024 – 2028.

ما الذي يحدث في سوق الذاكرة الحاسوبية العالمية؟
1. الطلب المتزايد من شركات الذكاء الاصطناعي
شهدت شركات مثل OpenAI وGoogle وMeta انفجارًا في احتياجاتها من الذاكرة العشوائية والذاكرة عالية الأداء المخصصة للخوادم.
فنماذج الذكاء الاصطناعي الضخمة (LLM) تحتاج إلى ملايين الجيغابايت من DRAM وHBM لتشغيل عمليات المعالجة العصبية المعقدة.
وهذا يعني:
- منافسة شرسة بين الشركات للحصول على المخزون المتاح
- ارتفاع فوري وسريع في الأسعار
- توجيه الإنتاج نحو قطاع الشركات بدلًا من المستهلكين
2. محدودية الإنتاج العالمي للـDRAM
رغم الطلب الهائل، فإن الإنتاج العالمي للـDRAM لا يستطيع الارتفاع بوتيرة سريعة بسبب:
- تعقيد التصنيع
- ارتفاع تكلفة خطوط الإنتاج
- الحاجة إلى مصانع ذات بيئة تقنية عالية للغاية
- احتكار السوق من طرف ثلاث شركات فقط
3. هيمنة ثلاثة لاعبين فقط على السوق
سوق DRAM العالمية يسيطر عليها ثلاثة شركات:
- Samsung
- SK Hynix
- Micron
أي خلل أو قرار استراتيجي من هذه الشركات يؤدي إلى اضطراب عالمي في الأسعار
قرار ميكرون الصادم… وسبب نُدرة DRAM في السوق الاستهلاكية
في 3 ديسمبر، أعلنت شركة Micron انسحابها من السوق الاستهلاكية وإيقاف علامتها التجارية الشهيرة Crucial، وهي علامة يعتمد عليها ملايين المستخدمين للحصول على:
- أقراص SSD بأسعار منخفضة
- شرائح DRAM لتحسين أداء الحواسيب الشخصية

لماذا انسحبت ميكرون من السوق الاستهلاكية؟
السبب ليس انخفاض الطلب، بل العكس تمامًا:
- قطاع الذكاء الاصطناعي أكثر ربحية
- شركات التكنولوجيا الكبرى تدفع أسعارًا أعلى للحصول على المخزون
- الحاجة إلى توجيه الإنتاج نحو العملاء الاستراتيجيين بدلًا من المستخدم الفردي
وقال Sumit Sadana، نائب رئيس الشركة:
«هدفنا هو تحسين الإمداد والدعم لعملائنا الاستراتيجيين في القطاعات ذات النمو العالي».
نتيجة القرار:
- نقص حاد في شرائح الذاكرة الموجهة للمستهلكين
- ارتفاع أسعار الذاكرة في مواقع البيع العالمي
- تضاعف أسعار PC RAM في أوروبا والشرق الأوسط وشمال إفريقيا
تأثير الأزمة على أسعار الحواسيب والهواتف والسيارات
1. أسعار الحواسيب الشخصية (PC)
يتوقع الخبراء:
- ارتفاعًا بين 20% إلى 30% حاليًا
- وصول الأسعار إلى +50% أو +60% بحلول أبريل القادم
- عدم وجود أي بوادر لانخفاض قبل عام 2028
2. الهواتف الذكية
الهواتف الحديثة تحتاج إلى:
- RAM عالية
- ذاكرة تخزين سريعة
- معالجات تتطلب دعم ذاكرة كبير
وبالتالي:
- سترتفع أسعار الهواتف المتوسطة والفاخرة
- بعض الشركات قد تقلل السعات التخزينية لتقليل التكلفة
3. السيارات الذكية
السيارات الحديثة تحتوي على:
- أنظمة مساعدة السائق
- كاميرات
- رادارات
- وحدات ذكاء اصطناعي داخلية
كل هذه التقنيات تتطلب ذاكرة DRAM، ما يعني ارتفاع أسعار:
- السيارات الكهربائية
- السيارات ذات القيادة الذاتية
- السيارات المزودة بأنظمة ذكية
لماذا لا يمكن زيادة الإنتاج بسرعة؟
برغم زيادة الطلب العالمي أربعة أضعاف، فإن إنتاج DRAM لا يمكن مضاعفته بسهولة لأن:
- بناء مصنع جديد يستغرق 3 إلى 5 سنوات
- تكلفة المصنع الواحد تتجاوز 20 مليار دولار
- التكنولوجيا المستخدمة حساسة ومعقدة
- الشركات لا تستطيع المغامرة بتوسعة ضخمة بسبب تقلبات السوق
هل ستستمر الأسعار في الارتفاع؟ وما هي التوقعات حتى 2028؟
وفقًا للمحللين الدوليين:
- الأسعار ستستمر في الارتفاع خلال 2024 و2025
- الاستقرار قد يبدأ في 2026 مع توسع إنتاج الذاكرة من الجيل الجديد HBM
- التخفيض الحقيقي من المتوقع أن يحدث فقط في 2028
أسباب ذلك:
- التوسع العالمي في استخدام الذكاء الاصطناعي
- ارتفاع الطلب على الخوادم العملاقة
- انتشار السيارات الذكية
- اعتماد الشركات على نماذج AI داخلية تتطلب ذاكرة أكثر
ما الذي يعنيه ذلك للمستهلك؟
- شراء الحاسوب اليوم قد يكون أرخص من شرائه بعد 6 أشهر
- أسعار الهواتف الحديثة ستزداد
- خيارات الترقية (Upgrade) ستصبح مكلفة جدًا
- قد نشهد ظهور سوق موازية للذاكرة المستعملة
- فئة الحواسيب الاقتصادية ستتقلص بشكل ملحوظ
خلاصة: الذكاء الاصطناعي يغيّر خريطة الصناعة الرقمية بالكامل
ما يحدث اليوم ليس مجرد ارتفاع عابر في الأسعار، بل هو تحول هيكلي عالمي في صناعة التكنولوجيا.
فالذكاء الاصطناعي أصبح المحرك الرئيسي للطلب على الذاكرة، والشركات الكبرى تحتكر الموارد لإطلاق نماذج أكثر قوة، مما يترك المستهلك العادي في مواجهة أسعار مرتفعة قد تستمر لسنوات.
ومع أن هذه الطفرة قد تُسرّع تطور الذكاء الاصطناعي عالميًا، إلا أنها ستجعل الأجهزة الإلكترونية اليومية أكثر تكلفة، من الحواسيب إلى الهواتف وحتى السيارات.




